القائمة الرئيسية

الصفحات


كتاب ‏تسعة عشر
تأليف: أيمن العتوم

موضوع الرواية:
كنت أشعر دائمًا أَنّ بابًا يُفضي إلى مكتبة من خلفه، ليس بابًا عاديًا، إنّه بابٌ يفتح على المُطلَق، وعلى الحياة الأخرى الأكثر إدهاشًا وغموضًا وسحرًا. إنّه بابٌ يفصل بين حياتين، بين حياة تافهة وساذجة، وبين حياة جادّة نابهة. لكأنّ الباب هو البرزخ بين هاتين الحياتين، وعليه فإنّه من اللائق أن تخلع عنك تفاهتك قبل أنْ تخطو الخُطوة الأولى عبر هذه البوّابة، وتلبس لِباس الرّهبان المقيمين في حضرة الصلوات الطاهرات.

زوبعة من المشاعر الغرائبيّة تكتنف روحك.. منذ الكلمات الأُوَل.. تشهق الأكباد.. وتقشعرّ الأبدان.. إنّها الرحلة الغائبة الحاضرة في الوجدان.. تتناساها عقولنا الواعية.. وتحضر في الأحلام والرؤى.. فهل من مناص؟!! ويباغتنا السؤال: لمَ هذا الموضوع؟ ولِمَ الآن؟ أليس في الواقع ما يُغني عن كلّ هذا المخيال؟َ!ولمَ قد (يهرب) الأديب إلى اللاواقع وفي الحياة ألف حكاية وحكاية؟!مثل هذه التّساؤلات تبرز في مقال (لوكاش)حول الواقعيّة، حيث يعرض فيها لثلاثة بدائل تتوفّر للكاتب الرّوائيّ، وهي محاكاة الواقع كما هو، أو أن ينسحب الكاتب داخل نفسه كالرّوائيين الّذين يستخدمون تيّار الشّعور، أمّا الثّالث، فهو أن يحاول الكاتب أن يرقى بالواقع من خلال منظور يستكشفه لواقع مُغاير، ويرقى بالواقع المتردّي إلى واقع جديد تتشكّل منه الواقعيّة الجديدة.

ولعل هذه الرّواية دمجت بين آليتين، الهروب إلى الدّاخل، وواقع موازٍ لواقع الكتابة لخلق واقع جديد.. فالحوار لا يتعدّى الشّخص ونفسه و ذكرياته وأحلامه وتخيّلاته وتصوّراته وما رآه وقرأ عنه في حياته السّابقة، والشخصيّة وحيدة، وإنّما تعدد الأصوات نابع عن تخيّلات هذه الشّخصيّة ولا يمكن اعتبارها شخصيّات حقيقيّة.. أما البطل، فهو يتعدّى الإنسان ليشمل بطولة الزّمان والمكان، بل إنّي أراها بطولة (اللغة) و(الخيال) الّلتين صوّرتا هذا العالم!!النّفس الإنسانيّة بكل تناقضاتها.. الصراعات البشريّة بكلّ أهوالها.. الكون وما فيه.. التّاريخ وأحداثه، عوالم الأرواح وتقاربها وتباعدها، الثقافات والكتب وما كُتب فيها من أفكار وآراء..ما وصلنا من آثار حول الحياة الأخرى..من آيات القرآن الكريم أو أحاديث محمّد صلى الله عليه وسلّم.. وفي أسفار التّوراة ورؤيا يوحنا.

تبدأ الرّواية بخروج البطل من القبر بمشهد روائيّ متخيّل، ليواجه بعدها عالمًا يمرّ فيه بمراحل برزخيّة كلّ مرحلة تُفضي إلى الأخرى بحسن تخلّصٍ ودراية .مرحلة الضّياع والتّيه، يقضي فيه البطل سنواته وحيدًا تائهًا باحثًا عن أيّ مخرج أو قطرة ماء أو أيّ دليل يدلّ على الحياة، مستنجدًا بذكرياته القديمة وما مرّ به من تجارب، ولعلّ هذه المرحلة تمثّل حال الإنسان العربيّ ومعاناته واستجداءه الحياة في خضمّ الموت والفقر والظّلم.. فهو (يفرّ من الممات إلى الممات).. وإسقاط الواقع المتخيّل على الواقع المَعيش بقصدية من الكاتب أو دون قصديّة منه تحيلنا إلى روايات عديدة وأدب له مكانته ووجوده على السّاحة الأدبيّة ومن ذلك روايات مؤنس الرّزاز مثل روايتيه: متاهة الأعراب في ناطحات السّحاب، وسلطان النّوم وزرقاء اليمامة..ونجد هذه االآلية وما يشابهها كذلك في روايات إبراهيم الكوني كالتّبر والورم.. وغيرهما..بعدها ينتقل إلى مرحلة الشجرات التسع عشرة..وهي الّتي تَنبت من ريشات ذلك الطّائر الأسطوريّ ، ومهمّته جمع تلك الرّيشات كي يستطيع في مرحلة لاحقة استخدامها لفتح مغاليق جديدة.

إنّها شجراتٌ إذن، وفي الشّجرة معنى الحياة، وهي شجرات اسمها مستقىً من شجرات ورد ذكرها في القرآن الكريم، كشجرة الدّهن والزّقّوم وشجرة الخلد، وسدرة المنتهى وغير ذلك.وماذا تريد الرّواية أن تقول في هذه المرحلة؟!إنّها مرحلة التّعلّم والتّهجّي والأبجديّات.. إنّها علوم الدّنيا.. وتاريخ البشريّة المرتبط بالقلم والألواح.. فلكلّ شجرة أهلوها.. وإنّما تجري الحوارات على النّحو المتخيّل مما يستدعيه البطل من ثقافته وما ينثال من ذاكرته.. ليحشد فيها عشرات الشّخصيات والأخبار والعلوم والكتب والأفكار والأحلام عبر التّاريخ القديم والحديث.. فلا نهوض إلا بالعلم، والثقافة والتّثاقف، ولعلّ من هؤلاء من قضى عمره مع (المحبرة إلى المقبرة).ثمّ مرحلة النّعيم الكامن، والسهل القاسي، والفردوس المرّ، والخلود النّاقص.. صورٌ من الجنّة بأسرّتها وأنهارها وقصورها وطعامها ورونقها وجمالها ورفاهيّتها وطعامها وشرابها.. لكنّها فاقدة للسّحر .. عصيّة على العيش.. لا طعم لها ولا مزاج.. لأنّها خالية من الأُنس .. إنّها الوحدة القاتلة وليتها تقتل فيستريح منها الإنسان، بل وحدة خالدة، يشقى بها وتشقى به.

هل يشتاق الإنسان لعذاباته؟؟ هل يشقى بنعيمه؟؟ هل يتمنّى زوال النّعم عنه؟؟ تجيب الرّواية بأن (بلى) كم من غنيّ باع ثروته مقابل عرض من الدنيا.. وكم من متنعّم باع الماديّ لأجل مشاعره.. إنّها طبيعة البشر وحقيقة الحياة.. فليست السّعادة بالمال وحده، وإنّما القيمة الحقيقية في جوهر الإنسان.. والنّعيم الحقّ في الودّ، والحياة الأجمل في الأُنس بمن نحبّ..يتخلّى البطل الّذي _لم تفصح الرّواية عن اسمه_ عن هذا النّعيم ويغادره إلى المجهول، ليمرّ بعذابات أُخَر ويصل إلى النّهر الّذي يُفضي إلى مبنى عظيم من خلفه.مطهر دانتي أو الصّراط أو الأعراف، هو ذاك النّهر.. لابدّ لكلّ إنسان من هذه المرحلة الصّعبة كي يصل إلى ما يُريد.. مخاض من نوعٍ فريد.. يجابه الإنسان فيه نفسه وضعفه وهواجسه الّتي تمثّلت بالكواسر والوحوش الّتي تكالبت عليه، وهي كائنات ليست كوحوش الفانية، بل لها صفات استندت إلى صفات تلك الكائنات الأسطوريّة كما نقرأ عنها في الملاحم والأساطير القديمة.

يعبرها البطل بصعوبة ومعاناة وكذلك كلّ هذف نرنو إليه ، لا بدّ دونه من معاناة ودمع ودم..يصل بعدها إلى ذلك العالم المنشود.. مكتبة ضخمة عظيمة، حوت كلّ ما خطّته يد البشر من يوم اختراع الكتابة حتّى نهاية وجود الإنسان على هذه الأرض..لبّ الرواية يقع في هذه المرحلة.. إنّها مرحلة النّضوج الفكريّ والعقليّ والمتعة الّتي يحصّلها المرء بجوار الكتب، وما ينهل منها من معارف وتجارب وشخصيّات ومشاهد وهي مرحلة الذروة، والاكتمال، الّذي يبدأ المنحنى بعده بالهبوط لصالح خاتمة الرّواية.إنّها تمثّل مرحلة الحكمة ليرضى فيها المرء بالقليل من الملذّات والشهوات والزاد اليسير، ويتخلّى عن نعيم الماديّات إلى نعيم من نوع آخر، إنّه شغف العقل، ومظنّة تكريم الله للإنسان، غذاء الرّوح وسلوة العقل، ولذّة النّشاط الذّهنيّ، والرّياضات العقليّة..هنا.. قد يجد المرء فرحة تشاغله عن وحدته، وأملًا بالمزيد والمزيد من الكأس الّتي لا تفرغ، والبحر الّذي لا ينضب.. هنا يعرف الإنسان ويفهم ويعي ويؤمن.. هنا يقوى على مخاوفه، وينتصر على هواجسه، ويكسر أصنامه بيديه.

يخرج بعدها ليلقى مصيره المنتظر.. وعلى عكس المثل القائل (رُبّ ضارّة نافعة) كانت (رُبّ نافعة ضارّة) فما تمنّاه كان فيه حتفه، وجرت رياحه على غير ما يشتهي، وكلّ ضناه وعذاباته في إيجاد شخص يحادثه.. جلبت إليه المصائب والفوضى، وكأنّه قد عاد إلى النّقطة الّتي منها بدأ.. الوحدة، لكن هذه المرّة وحدة مع كلّ البشر، إنّها التّفرّد ووحدة الشّعور، وعدم الأنس بكلّ البشر المنبعثين من قبورهم، اللاهين عنه وعن آلامه، ينشغل كلّ منه بنفسه، فلكلٍّ منهم يومئذٍ (شأنٌ يُغنيه).

تعليقات